الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام: وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابيننِ من قبله، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 3] هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات} وتمهيد لقوله: {منه آيات محكمات} لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح: تالإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح؛ إذ وُصف فيها بأنّه روح الله؛ وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء بأويل. وفي قوله: {هو الذي أنزل الكتاب} قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى: لتكون الجملة، مع كونها تأكيداً وتمهيداً، إبطالاً أيضاً لقول المشركين: {إنّما يعلّمه بَشَر} [النحل: 103] وقولهم: {أساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا} [الفرقان: 5]. وكقوله: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 210 212] ذلك أنّهم قالوا: هو قول كاهن، وقول شاعر، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء (جمعَ رئي). ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب. وضمير {منه} عائد إلى القرآن. و«منه» خبر مقدم و{آيات محكمات} مبتدأ. والإحكام في الأصل المنع، قال جرير: أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكم *** إنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق؛ لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة، وهو حقيقة أو مجاز مشهور. أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد. وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض. وقوله: {أم الكتاب} أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه، ومنه سمّيت خريطة الرأس، الجامعة له: أمّ الرأس وهي الدمَاغ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيْش ينضوي إليها، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ. ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن. والكتاب: القرآن لا محالة؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} فليس قوله: {أم الكتاب} هنا بمثللِ قوله: {وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39]. وقوله: {وأُخر متشابهات} المتشابهات المتماثلات، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً، كما في قوله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} [البقرة: 70] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه. وقد أشارت الآية: إلى أنّ آيات القرآن صنفان: محكمات وأضدادها، التي سميت متشابهات، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات، ثم أعقب ذلك بقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها، فعلمنا أنّ صفة المحكمات، والمتشابهات، راجعة إلى ألفاظ الآيات. ووصف المحكمات بأنّها أمُّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل، أو المرجع، وهما متقاربان: أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه، وليس يناسب هذين المعنيين إلاّ دلالةُ القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ، وكانت أصولاً لذلك: باتّضاح دلالتها، بحيث تدل على معاننٍ لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به، وذلك كقوله: {ليس كمثله شي} [الشورة: 11] {لا يُسأل عمّا يفعل} [الأنبياء: 23] {يريد اللَّه بكم اليسر} [البقرة: 185] {واللَّه لا يحبّ الفساد} [البقرة: 205] {وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى} [النازعات: 40]. وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع. والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلّت على معاننٍ تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ. ومعنى تشابهها: أنّها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض. أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً، فلا يتبيّن الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى. وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال: مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء، فعن ابن عباس: أنّ المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى، وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة [الأنعام: 151]: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم} والآيات من سورة [الإسراء: 23]: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وأن المتشابه المجملات التي لم تبيّن كحروف أوائل السور. وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضاً: أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية. وعن الأصم: المحكم ما اتّضح دليلُه، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر، وذلك كقوله تعالى: {والذي نزّل من السماء ما ء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون} [الزخرف: 11] فأولها محكم وآخرها متشابه. وللجمهور مذهبان: أولهما أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب، من جامع العتبيَّة، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية وإليه مال الشاطبي في الموافقات. وثانيهما أنّ المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيُها، وإليه مال الفخر: فالنص والظاهر هنا المحكم، لاتّضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما: أي المؤول دالاً على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية. قال الشاطبي: فالتشابه: حقيقي، وإضافي، فالحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي: ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصّى المجتهد أدلّة الشريعة وجد فيها ما يبيّن معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّاً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير. وقد دل هذه الآية على أنّ من القرآن محكماً ومتشابهاً، ودلت آيات أخر على أنّ القرآن كلَّه محكم، قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1] وقال: {تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] والمراد أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته، كما دلت آيات على أنّ القرآن كلّه متشابه، قال تعالى: {اللَّهُ نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} [الزمر: 23] والمعنى أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة، وهو معنَى: «ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً» فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات. وسبب وقوع المتشابهات في القرآن: هو كونه دعوة، وموعظة، وتعليماً، وتشريعاً باقياً، ومعجزة، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لِجمع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنّما كانت هجّيراهم الخطابة والمقاولة، فأسلوب المواعظ والدعوةِ قريب من أسلوب الخطابة، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلَّفة لِلعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأودعت العلوم المقصود منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات، كالبيع، متّصلاً بعضها ببعض، بل تلفيه موزّعاً على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة، ليخفّ تلقّيه على السامعين، ويعتادُوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرّقة يضمّ بعضها إلى بعض بالتدبّر. ثم إنّ إلقاء تلك الأحكام كان في زمان طويل، يزيد على عشرين سنة، ألقِي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم، وتحمّلته مقدرتهم، على أنّ بعض تشريعه أصول لا تتغيّر، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم، فلذلك تجد بعضها عاماً، أو مطلقاً، أو مجملاً، وبعضها خاصاً، أو مقيداً، أو مبيَّناً، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصات مثلاً، فلعلّ بعضاً منهم لا يتمسّك إلاّ بعمومه، حينئذ، كالذي يرى الخاص الوارد بعد العام ناسخاً، فيحتاج إلى تعيين التاريخ، ثم إنّ العلوم التي تعرّض لها القرآن هي من العلوم العليا: وهي علوم فيما بعد الطبيعة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، والحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها، مَا أوجب تشابهاً في مدلولات الآيات الدالة عليها. وإعجازُ القرآن: منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي، وهو فنّ جليل من الإعجاز بيّنته في المقدمة العاشرة من مقدّمات هذا التفسير. فلمّا تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، فيما تعرّض إليه، جاء به محكياً بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر، وربّما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولاً لأقوام، فيعدّون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بَعْدهم علموا أنّ ما عدّه الذين قبلهم متشابهاً ما هو إلاّ محكم. على أنّ من مقاصد القرآن أمرين آخرين: أحدَهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين، وثانيهما تعويد حَمَلة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كلّ زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بينَ أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم، تبعاً لاختلاف مراتب العصور. فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمّى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها. وأنّها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب: أولاها: معاننٍ قُصِد إيداعها في القرآن، وقُصد إجمالها: إمّا لعدم قابلية البشر لفهمها، ولو في الجملة، إن قلنا بوجود المجمل، الذي استأثر الله بعلمه، على ما سيأتي، ونحن لا نختاره. وإمّا لعدم قابليتهم لكنه فهمها، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر، أو جهةٍ، لفهمها بالكنة ومن هذا أحوال القيامة، وبعضُ شؤون الربوبية كالإتيان في ظُلل من الغمام، والرؤية، والكلاممِ، ونحو ذلك. وثانيتها: معاننٍ قصد إشعار المسلمين بها، وتَعيّن إجمالها، مع إمكان حملها على معاننٍ معلومةٍ لكن بتأويلات: كحُروف أوائل السور، ونحوِ {الرحمانُ على العرش استوى} [طه: 5] {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29]. ثالثتها: معاننٍ عاليةً ضاقت عن إيفاء كنهها اللغةُ الموضوعةُ لأقصى ما هو متعارَف أهلها، فعبّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيَها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نورُ السموات والأرض. رابعتها: معاننٍ قَصُرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قُرآنيَّة عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي، نحو قوله: {والشمس تجري لمستقر لها} [يس: 38] {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] {يكور الليل على النهار} [الزمر: 5] {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب} [النمل: 88] {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] {زيتونة لا شرقية ولا غربية} [النور: 35] {وكان عرشه على الماء} [هود: 7] {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] وذكرِ سُدِّ يأجوج ومأجوج. خامستها: مَجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب، إلاّ أنّ ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى: لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية، وتوقّف فريق في محملها تنزيهاً، نحو: {فإنّك بأعيننا} [الطور: 48] {والسماء بنيناها بأيدٍ} [الذاريات: 47] {ويبقى وجه ربّك} [الرحمن: 27]. وسادستها: ألفاظ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم: قريش والأنصار مثل: {وفاكهة وأبّا} [عبس: 31] ومثل {أو يأخذهم على تخوف} [النحل: 47] {إنّ إبراهيم لأوّاه حليم} [التوبة: 114] {ولا طعامٌ إلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]. سابعتها: مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه، صار حقيقة عرفية: كالتيمّم، والزكاة، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال: كالربا قال عمر: «نزلت آيات الربا فِي آخر ما أنزل فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنها» وقد تقدم في سورة البقرة. ثامنتها: أساليب عربية خفيت على أقوام فظنّوا الكلام بها متشابهاً، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ومثل المشاكلة في قوله: {يخادعون اللَّه وهو خادعهم} [النساء: 142] فيعلم السامع أنّ إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة. وتاسعتها: آيات جاءت على عادات العرب، ففهمها المخاطبون، وجاء مَن بعدهم فلم يفهموها، فظنّوها من المتشابه، مثل قوله: {فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أَنْ يَطَّوّفَ بهما} [البقرة: 158]، في «الموطأ» قال ابن الزبير: «قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثاً لم أتفقّه لا أرى بأساً على أحدٍ ألاّ يطوف بالصفا والمروة» فقالت له: «ليس كما قلت إنّما كان الأنصار يهلون لمناةَ الطاغية» إلخ. ومنه: {عَلِم اللَّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} [البقرة: 187] {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وءامنوا} [المائدة: 93] الآية فإنّ المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها. عاشرتها: أفهام ضعيفة عَدت كثيراً من المتشابه وما هو منه، وذلك أفهام الباطنية، وأفهام المشبِّهة، كقوله تعالى: {يوم يكشف عن شاق} [القلم: 42]. وليس من المتشابه ما صرّح فيه بأنّا لا نصل إلى علمه كقوله: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} [الأعراف: 187]. وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحملَ عليه دليل آخر، منفصل عنه؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله تعالى خطاباً لإبليس: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} الآية في سورة [الإسراء: 64] مع ما في الآيات المقتضية {فإنّ الله غني عنكم ولا يرضَى لعباده الكفر} [الزمر: 7] إنه لا يحبّ الفساد. وقد علمتم من هذا أنّ مِلاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة: إمّا لضيقها عن المعاني، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإمّا لتناسي بعض اللغة، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه: صفتان للألفاظ، باعتبار فهم المعاني. وإنّما أخبر عن ضمير آياتتٍ محكمات، وهو ضمير جمع، باسم مفرد ليس دالاً على أجزاءٍ وهو {أمّ}، لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتاببِ منزلة أمّه أي أصله ومرجِعه الذي يُرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى: هنّ كأمِّ للكتاب. ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يَذْكُر بني أسد: فَهُمْ دِرْعِي التِي استلأمْتُ فيها *** أي مجموعهم كالدِّرع لي، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان: 74]. والكلام على (أخَر) تقدّم عند قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184]. {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ}. تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه. أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة، فلا حاجة إلى تفصيل فيه، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه: وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيُصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتَشبهات القرآن. والقلوب محالُّ الإدراك، وهي العقول، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى: {ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه} في سورة [البقرة: 283]. والزيغ: الميل والانحراف عن المقصود: {ما زاغ البصر} [النجم: 17] ويقال: زاغت الشمس. فالزيغ أخصّ من الميل؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصودِ. والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه، يحصونه، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعَهُ. وقد ذكر علة الاتّباع، وهو طلب الفتنة، وطَلبُ أن يؤوّلوه، وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة، بدليل قوله: {وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم} كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحِدة وأهللِ الأهواء: الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم. ولما وَصَف أصحَاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم، علمنا أنّه ذمهم بذلك لهذا المقصد، ولا شك أنّ كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضياً إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم. فالذين اتّبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون، والزنادقة، والمشركون مثال تأويل المشركين: قصةُ العاصي بن وائل من المشركين إذْ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجراً، فقال العاصي متهكّما به «وإنِّي لمبعوثٌ بعد الموت أي حَسْب اعتقادكم فسوفَ أقضيك إذا رجعتُ إلى مال وولد» فالعاصي توهّم، أو أراد الإيهام، أنّ البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدْعَى إلى تكذيب الخبر بالبعث، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات، ولذلك كانوا يقولون: {فأتُوا بآبائنا إن كُنتم صادقين} [الدخان: 36]. ومثال تأويل الزنادقة: ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال: كنت بمكة حين كان الجَنَّابي زعيم القرامطة بمكة، وهم يقتلون الحجاج، ويقولون: أليس قد قال لكم محمد المكي «ومن دخله كان آمناً فأيُّ أمْن هنا؟» قال: فقلت له: هذا خرج في صورة الخبر، والمراد به الأمرُ أي ومن دخله فأمِّنُوه، كقوله: {والمطلقات يتربّصن} [البقرة: 228]. والذين شابهوهم في ذلك كلّ قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصّبات. وكلّ من يتأوّل المتشابه على هواه، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل واستعمال عربي. وقد فُهم أنّ المراد: التأويل بحسب الهوى، أو التأويل المُلْقِي في الفتنة، بقرينة قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللَّه والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به} الآية، كما فهم من قوله: {فيتّبعون} أنّهم يهْتَمُّون بذلك، ويستهترون به، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتيع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد، وبين حال من يفسّر المتشابه ويؤوّله إذا دعاه داع إلى ذلك. وفي «البخاري» عن سعيد بن جُبير أنّ رجلاً قال لابن عباس: «إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ» قال: ما هو قال: «فلا أنسَابَ بينهم يومئذ ولا يتساءلون» وقال «وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» وقال: «ولا يكتمون الله حديثاً» وقال: «قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين» قال ابن عباس: «فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فأما قوله: {والله ربّنا ما كنّا مشركين} [الأنعام: 23] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون: تعالَوا نقلْ: «ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً». وأخرج البخاري، عن عائشة: قالت «تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله: {أولوا الألباب} [البقرة: 269] قالت قال رسول الله:» " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ". ويقصد من قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} التعريض بنصارى نجران، إذ ألزموا المسلمين بأنّ القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا، وزعموا أنّ ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أنّ هذا إن صح عنهم هو تمويه؛ إذ من المعروف أنّ في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}. جملة حال أي وهم لا قِبل لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم، كما قيل في المثل: «ليس بعشّك فادرجي». ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رضي الله عنه: «أيُّ أرضضٍ تُقِلّنِي وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إن قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم». وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة، يقال له صَبِيغ بن شريك أو ابن عِسْل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء فأحضره عمر، وضربه ضرباً موجعاً، وكرّر ذلك أياماً، فقال: «حسبُك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنتُ أجد في رأسي» ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا. قال ابن العربي في «العواصم من القواصم» «من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية». قلت: أمَّا الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابهاً، وتأوّلوه بحسب أهوائهم، وأمّا الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه، واعتقدوا سبب التشابه واقعاً، فالأوّلون دخلوا في قوله: {وابتغاء تأويله}، والأخيرون خرجوا من قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} أو وما يعلم تأويله إلا الله، فخالفوا الخلف والسلف. قال ابن العربي «في العواصم» «وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا: لا حُكْم إلاّ لله» يعني أنّهم أخذوا بظاهر قوله تعالى: {إننِ الحُكْمُ إلا لله} ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم. والمراد بالراسخين في العلم: الذين تمكّنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ رسوخاً إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه، ولا تتطرّقه الأخطاء غالباً، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه. ولذا فقوله: {والراسخون} معطوف على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريف عظيم: كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] وإلى هذا التفسير مَال ابن عباس، ومجاهد، وَالربيع بن سليمان، والقاسم بن محمد، والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي، وابن عطية، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها. ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة. ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه: لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، ففي أيِّ شيء رسوخهم، وحكى إمام الحرمين، عن ابن عباس: أنّه قال في هاته الآية: «أنا ممّن يعلم تأويله». وقيل: الوقف على قوله: {إلا الله} وإنّ جملة {والراسخون في العلم} مستأنفة، وهذا مروي عن جمهور السلف، وهو قول ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية، وقاله عروة بن الزبير، والكسائي، والأخفش والفرّاء، والحنفية، وإليه مال فخر الدين. ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم؛ فإنّه دليل بيّن على أنّ الحُكم الذي أثبت لهذا الفريق، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضِلات، وهو تأويل المتشابه، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفاً على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله. ولو كان الراسخون مبتدأ وجملةُ: «يقولون ءامّنا به» خبراً، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة. قال ابن عطية: «تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلاّ ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلاّ المعرفةُ بتصاريف الكلام بقريحة معدة» وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحاً لأحد التفسيرين، وليس إبطالاً لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله. وفي قوله: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه. واحتجّ أصحاب الرأي الثاني، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة: بأنّ الظاهر أن يكون جملة (والراسخون) مستأنفة لتكون معادِلاً لجملة: {فأما الذين في قلوبهم زيغ}، والتقدير: وأمّا الراسخون في العلم. وأجاب التفتازاني بأنّ المعادِل لا يلزم أن يكون مذكوراً، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه. واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} قال الفخر: لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة. وذكر الفخر حججاً أخر غير مستقيمة. ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابهاً غير ما خفي المراد منه، وأنّ خفاء المراد متفاوت، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابهاً استأثر الله بعلمه، وهو أيضاً متفاوت؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبَة، وهو ممّا ينبغي ألاّ يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سَهْللٍ تأويلُها مثل {فإنّك بأعيننا} [الطور: 48] دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه، قال الشيخ ابن عطية «إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يَعلم تأويلَه على الاستيفاء إلاّ الله تعالى فمَن قالَ، من العلماء الحذّاق: بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، فإنّما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال». وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى: {والراسخون في العلم} انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابهاً: من آيات القرآن، ومن صحاح الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان رأي فريق منهم الإيمانَ بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويضَ العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلَف علمائنا، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلِّمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، ويُعبّر عنها بطريقة السلف، ويقولون: طريقة السلف أسْلَمُ، أي أشدُّ سلامة لهم من أن يَتأوّلوا تأويلات لا يدرَى مدى ما تفضِي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل. وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعاننٍ من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز، واستعارة، وتمثيل، مع وجود الدّاعي إلى التأويل، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون: طريقة الخلف أعم، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لِجدال الملحدين، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين، وقد يصفونها بأنّها أحْكَمُ أي أشدّ إحكاماً؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماءِ الأصول، ولم أقف على تعيين أوّللِ من صدَرا عنه، وقد تعرّض الشيخ ابن تيمية في «العقيدة الحموية» إلى ردّ هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل. والموصوف بأسْلَم وبأعلَم الطريقةُ لا أهلُها؛ فإنّ أهل الطريقتين من أئمة العلم، وممّن سلموا في دينهم من الفِتن. وليس في وصف هذه الطريقة، بأنّها أعْلَمُ أوْ أحْكَمُ، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأنّ العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي، وهديهم النبوي، وفيهم من لا يُعير البحثَ عنها جانباً من همّته، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طَيّ البحث عن تفصيلها أسلم للعموم، وكان تفصيلها بعد ذلك أعْلَم لمن جاء بعدهم، بحيث لو لم يؤوِّلوها به لأوسعوا، للمتطلّعين إلى بيانها، مجالاً للشك أو الإلحاد، أو ضيققِ الصدر في الاعتقاد. واعلم أنّ التأويل منه ما هو واضح بيِّن، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يُعادِل حملَ اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه. فهذا القسم من التأويل حقيق بألاّ يسمّى تأويلاً وليس أحدُ مَحْمَلَيْه بأقوى من الآخر إلاّ أنّ أحدهما أسبقُ في الوضع من الآخر، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبقُ إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتضضٍ ترجيحَ ذلك المعنى، فكم من إطلاق مجازي للفظٍ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي. وليس قولهم في علم الأصول بأنّ الحقيقة أرجحُ من المجاز بمقبول على عمومه. وتسميةُ هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية. وعدّه من المتشابه جمود. ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكنّ القرائن أو الأدلةَ أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعدّ من المتشابه. ثم إنّ تأويل اللفظ في مِثله قد يتيسّر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنّه المراد إذا جَرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله: {بَنيناها بأيدٍ} [الذاريات: 47] وقوله: {فإنَّك بأعيننا} [الطور: 48] فمَن أخذوا من مثله أنّ لله أعيناً لا يُعرف كنهها، أوْ له يداً ليست كأيدينا، فقد زادوا في قوة الاشتباه. ومنه ما يعتبر تأويله احتمالاً وتجويزاً بأن يكون الصرف عن الظاهر متعيّناً وأمّا حمله على ما أوّلوه به فعلى وجه الاحتمال والمثاللِ، وهذا مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقوله: {هل ينظرون إلاّ أن يأتيَهم الله في ظُلَل من الغمام} [البقرة: 210] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يَدعي أحد، أن ما أوّلَه به هو المرادُ منه ولكنّه وجه تابع لإمكان التأويل، وهذا النوع أشدّ مواقع التشابه والتأويل. وقد استبان لك من هذه التأويلات: أنّ نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبّر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور. وقوله: {يقولون آمنا به} حال من (الراسخون) أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه: يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد؛ لأنّ شأن المعتقد أن يقول معتَقَده، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا: لماذا لم يجئ الكلام كلّه واضحاً، ويتطرّقهم من ذلك إلى الرّيبة في كونه من عند الله، فلذلك يقولون: {كل من عند ربنا}. ويحتمل أنّ المراد يقولون لغيرهم: أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين، الذين لا قِبل لهم بإدراك تأويله، ليعلّموهم الوقوف عند حدود الإيمان، وعدمَ التطلّع إلى ما ليس في الإمكان، وهذا يقرب ممّا قاله أهل الأصول: إنّ المجتهد لا يلزمه بيانُ مُدركه للعامي، إذا سأله عن مأخذ الحكم، إذا كان المدرَك خفياً. وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقففِ على اسم الجلالة. وعلى قول المتقدّمين يكون قوله: {يقولون} خبراً، وقولهم: {آمنا به} آمنّا بكونه من عند الله، وإن لم نفهم معناه. وقوله: {كل من عند ربنا} أي كلٌ من المحكَم والمتشابه. وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم: {آمنا به}، فلذلك قطعت الجملة. أي كلّ من المحكم والمتشابه، مُنزل من الله. وزيدت كلمة (عند) للدلالة على أنّ مِن هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامِه، وليس كقوله: {ما أصابك مِن حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك} [النساء: 197]. وجملة {وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألباب} تذييل، ليس من كلام الراسخين، مَسوق مَساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم. والألبابُ: العقول. وتقدّم عند قوله تعالى: {واتقون يا أولي الألباب} في سورة [البقرة: 197].
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} دعاء عُلِّمَه النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً للأمة: لأنّ الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلاّ من عقلاء البشر، لا تفاوت بينهم وبين الرّاسخين في الإنسانية، ولا في سلامة العقول والمشاعر، فما كان ضلالهم إلاّ عن حرمانهم التوفيق، واللطف، ووسائلَ الاهتداء. وقد عُلم من تعقيب قوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} [آل عمران: 7] الآيات بقوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا} أنّ من جملة ما قُصد بوصف الكتاب بأنّ منه محكماً ومنه متشابهاً، إيقاظَ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبّر كتابها: تحذيراً لها من الوقوع في الضلال، الذي أوقع الأممَ في كثير منه وجودُ المتشابهات في كتبها، وتحذيراً للمسلمين من اتّباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردّة والعصيان، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لتوهّم أنّ التديّن بالدين إنّما كان لأجل وجود الرسول بينهم، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب، ففي «الموطأ»، عن الصُّنَابِحي: أنّه قال: «قدمتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية: {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية. فَزَيْغ القلب يتسبّب عن عوارض تعرض للعقل: من خلل في ذاته، أو دواععٍ من الخُلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلّية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقرّ في النفس من تعاليم الخير المسمّاة بالهُدى، ولا يدري المؤمن، ولا العاقلُ، ولا الحكيم، ولا المهذّبُ: أيَّةَ ساعة تحلّ فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأفن: أيَّةَ ساعة تحفّ فيها به أسباب الإقلاع عمّا هو متلبّس به من تغيّر خَلْق، أو خُلُق، أو تبدل خَليط، قال تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} [الأنعام: 110] ولذا كان دأب القرآن قرنَ الثناء بالتحذير، والبشارة بالإنذار. وقوله: {بعد إذ هديتنا} تحقيق للدعوة على سبيل التلطّف؛ إذ أسندوا الهَدْي إلى الله تعالى، فكان ذلك كرماً منه، ولا يرجع الكريم في عطيته، وقد استعاذَ النبي صلى الله عليه وسلم من السلب بعد العطاء. وإذْ اسم للزمن الماضي متصرّف، وهي هنا متصرّفة تصرّفاً قليلاً؛ لأنّها لمّا أضيف إليها الظرف، كانت في معنى الظروف، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبةُ تصرّففٍ، كما هي في يومئذٍ وحينئذٍ، أي بعد زمن هدايتِك إيانا. وقوله: {وهب لنا من لدنك رحمة} طلبوا أثَرَ الدوام على الهُدى وهو الرحمة، في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر. وجعلت الرحمة من عند الله لأنّ تيسير أسبابها، وتكوين مهيّئاتها، بتقدير الله؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معَرّضاً لنزول المصائب والشرور في كلّ لمحة؛ فإنّه محفوف بموجودات كثيرة، حيّة وغير حيّة، هو تلقاءَها في غاية الضعف، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتّقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبةِ له قوى عمياءَ لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلاّ على سبيل الندور ولهذا قال تعالى: {اللَّه لطيف بعباده} [الشورى: 19] ومن أجلَى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة «اللّطْفُ عند الاضطرار». والقصر في قوله: {إنك أنت الوهاب} للمبالغة، لأجل كمال الصفة فيه تعالى؛ لأنّ هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به. وفي هذه الجملة تأكيد بإنّ، وبالجملة الاسمية، وبطريق القصر. وقوله: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} استحضروا عند طلب الرحمة أحْوجَ ما يكونون إليها، وهو يومُ تكونُ الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءَهم على سبيل الإيجاز، كأنّهم قالوا: وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصّة يوم تجمّع الناس كقول إبراهيم: {ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [إبراهيم: 41] على ما في تذكّر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين، والعلماءِ الراسخين. ومعنى {لا ريب فيه} لا ريب فيه جديراً بالوقوع، فالمراد نفي الريب في وقوعه. ونفوه على طريقه نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين، هذا إذا جعلتَ (فيه) خبراً، ولك أن تجعله صفةً لريبَ وتجعلَ الخبر محذوفاً على طريقة لا النافية للجنس، فيكون التقدير: عندنا، أو لَنَا. وجملة {إن الله لا يخلف الميعاد} تعليل لنفي الريب أي لأنّ الله وعد بجمع الناس له، فلا يخلف ذلك، والمعنى: إنّ الله لا يُخلف خبرَه، والميعاد هنا اسم مكان.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)} استئناف كلام ناشيء عن حكاية ما دعا به المؤمنون: من دوام الهداية، وسؤال الرحمة، وانتظار الفوز يوم القيامة، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة. وتعقيب دعاء المؤمنين، بذكر حال المشركين، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت. والمراد بالذين كفروا: المشركون، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل: الذين كفروا بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قُريظة والنضير وأهلُ نجران؛ ويُرجَّح هذا بأنّهم ذُكِّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهودوالنصارى أعلق بأخبار فرعون. كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة. ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين: من المشركين، وأهل الكتابَيْن، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم. ومعنى «تُغني» تُجزِي وتكفي وتدفع، وهو فِعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو: «ما أغني مَالِيَهْ». ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع، كان مؤذناً بأنّ هنالك شيئاً يدفع ضُرّه، وتُكفى كلفتُه، فلذلك قَد يذكرون مع هذا الفعل متعلِّقاً ثانياً ويُعَدُّونَ الفعل إليه بحرف (مِن) كما في هذه الآية. فتكون (مِن) للبدل والعوض على ما ذهب إليه في «الكشاف»، وجعل ابن عطية (من) للابتداء. وقوله: {من الله} أي من أمر يضاف إلى الله؛ لأنّ تعليق هذا الفعل، تعليقاً ثانياً، باسم ذات لايقصد منه إلاّ أخصّ حال اشتهرت به، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة. والتقدير هنا من رحمة الله، أو من طاعته، إذا كانت (مِنْ) للبدل وكَذا قدّره في «الكشاف»، ونظّره بقوله تعالى: {وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً} [النجم: 28]. وعلى جعل (من) للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله، أو من عذابه، أي غناء مبتدِئاً من ذلك: على حدّ قولهم: نَجَّاه من كذا أي فصله منه، ولا يلزم أن تكون (مِن) مَعَ هذا الفعل، إذا عدّي بعَن، مماثلة لمِنْ الواقعة بعد هذا الفعل الذي يُعَدّ بعن، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام. والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ (شيء) مع ذكر المتعلِّقين كما في الآية، وبدون ذكر متعلِّقين، كما في قول أبي سفيان، يومَ أسْلَمَ: «لقد علمتُ أنْ لَوْ كان معه إله غيرُه لقد أغنى عنّي شيئاً». وانتصب قوله: {شيئاً} على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئاً من الغَناء. وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفاً، بله الغناء المهم، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي. وقد ظهر بهذا كيفية تصرفّ هذا الفعل التصرّفَ العجيب في كلامهم، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشّاف، وما دونها، في معنى هذا التركيب. وقد مرّ الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله: {ولنبلونَّكم بشيء من الخوف} [البقرة: 155]. وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل، من عشيرته، أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤُها. قال قيس بن الخطيم: ثَأرْتُ عَدِيَّا والخَطِيمَ ولَمْ أضعْ *** وَلاَيَة أشْيَاخخٍ جُعِلْتُ إزَاءَها والأموال المكاسب التي تقتات وتدخّرُ ويتعاوض بها، وهي جمع مال، وغلب اسم المال في كلام جلِّ العرب على الإبل قال زهير: صَحيحاتتِ ماللٍ طَالعات بمخرم *** وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنّات والحوائط وفي الحديث «كان أبو طلحة أكثرَ أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحَبُّ أمواله إليه بئر حاء»، ويطلق المال غالباً على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس «أيْن المال الذي عند أم الفضل.» والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا؛ لأنّه شُبِّه بأنّه {كدأب ءال فرعون} إلى قوله {فأخذهم الله بذنوبهم} وشأنُ المشبّه به أن يكون معلوماً؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله: {وأولئك هم وقود النار}. وجيء بالإشارة في قوله: {وأولئك} لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخَبر وهو قوله: {هم وقود النار}. وعطفت هذه الجملة، ولم تفصل، لأنّ المراد من التي قبلهالا وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله، في الآية التي بعد هذه: {ستُغْلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد} [آل عمران: 12]. والوَقود بفتح الواو ما يوقد به كالوَضوء، وقد تقدّم نظيره في قوله: {التي وقودها الناس والحجارة} في سورة البقرة. وقوله: {كدأب ءال فرعون} موقع كاف التشبيه موقع خبرٍ لمبتدأ محذوف يدل عليه المشبّه به، والتقدير: دأبُهم في ذلك كدأب آل فرعون، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون. والدأب: أصله الكَدْح في العمل وتكريره، وكأنّ أصل فعله متعدَ، ولذلك جاء مصدره على فَعْل، ثم أطلق على العادة لأنّها تأتي من كثرة العمل، فصار حقيقة شائعة قال النابغة: كدأبِك في قوممٍ أرَاكَ اصطنعتَهُم *** أي عادتك، ثم استعمل بمعنى الشَّأن كقول امرئ القيس: كدأبك من أم الحُويرث قبلَها *** وهو المراد هنا، في قوله: {كدأب ءال فرعون}، والمعنى: شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون؛ إذ ليس في ذلك عادة متكرّرة، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة؛ لأنّهم إذا استقْرَوْا الأمم التي أصابها العذاب، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر: بالله، وبرسله، وبآياته، وكفَى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب، وقد تعيّن أن يكون المشبّه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا؛ إذ الأصل أنّ حال المشبّه، أظهر من حال المشبّه به عند السامع. وعليه فالأخذ في قوله: {فأخذهم الله بذنوبهم} هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله: {أخذناهم بغتة فإذا هم مُبلسون فقطع دابر القوم الذي ظلموا} [الأنعام: 44، 45]. وأريد بآل فرعون فرعون وآلهُ؛ لأنّ الآل يطلق على أشدّ الناس اختصاصاً بالمضاف إليه، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعةِ والتواطؤ على الكفر، كقوله: {أدْخِلُوا ءال فرعون أشدّ العذاب} [غافر: 46] فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم؛ إذ قوم الرجل قد يخالفون، فلا يدل الحكم المتعلّق بهم على أنّه مساوٍ لهم في الحكم، قال تعالى: {ألا بعداً لعاد قوم هود} [هود: 60] في كثير من الآيات نظائرها، وقال: {أن ائْتتِ القومَ الظالمين قومَ فرعون} [الشعراء: 10، 11]. وقوله: «كذبوا» بيان لدأبهم، استئناف بياني. وتخصيص آل فرعون بالذكر من بين بقية الأمم لأنّ هلكهم معلوم عند أهل الكتاب، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر؛ ولأنّ تحدّي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئاً تُجاه ضلالهم؛ ولأنّهم كانوا أقرب الأمم عهداً بزمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقول شعيب: {وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89] وكقول الله تعالى للمشركين: {وإنّها لبسبيل مقيم} [الحجر: 76] وقوله: {وإنّهما لبإمام مبين} [الحجر: 79] وقوله: {وإنّكم لَتَمُرُّون عليهم مُصبحين وبالليللِ أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138].
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} استئناف ابتدائي، للانتقال من النذارة إلى التهديد، ومن ضَرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأنّ أمرهم صائر إلى زوال، وأنّ أمر الإسلام ستندكّ له صمّ الجبال. وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها؛ لأنّ المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة، والتذكير بوصف يوم كانَ عليهم، يعلمونه. {والذين كفروا} [البقرة: 39] يحتمل أنّ المراد بهم المذكورون في قوله: {إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم} [آل عمران: 116] فيجيء فيه ما تقدّم والعدول عن ضمير (هم) إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة. والظاهر أنّ المراد بهم المشركون خاصّة، ولذلك أعيد الاسم الظاهر، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعدَه: {قد كان لكم آية} إلى قوله {يرونهم مثليهم رأى العين} وذلك ممّا شاهده المشركون يوم بدر. وقد قيل: أريد بالذين كفروا خصوص اليهود، وذكروا لذلك سبباً رواه الواحدي، في أسباب النزول: أنّ يهود يَثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدّة فلمّا أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة. نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشْرَف في ستين راكباً إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم: لتكونَنّ كلمتنا واحدة، فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية. وروى محمد بن إسحاق: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غَلَب قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ وقال لهم: " يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم، أنّي نبيء مرسل " فقالوا: «يا محمد لا يغرنّك أنّك لقيتَ قوماً أغمارَا لا معرفة لهم بالحرب فأصبْتَ فيهم فرصة أمَا والله لو قاتلناك لعرفتَ أنّا نحن الناس» فأنزل الله هذه الآية. وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح قريظة والنضِير وخَيبر، وأيضاً فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال. وعطف {بئس المهاد} على {ستغلبون} عطف الإنشاء على الخبر. وقرأ الجمهور {ستُغلبون وتُحشرون} كلتيهما بتاء الخطاب وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف: بياء الغيبة، وهما وجهان فيما يحكَى بالقول لمخاطب، والخطابُ أكثر: كقوله تعالى: {ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبُدوا الله ربّي وربّكم} [المائدة: 117] ولم يقل ربَّك وربَّهم. والخطاب في قوله: {قد كان لكم آية} خطاب للذين كفروا، كما هو الظاهر؛ لأنّ المقام للمحاجّة، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة. فيكون من جملة المقول، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين، أو اليهود، أو كليهما، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر. والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر. والالتقاء: اللقاء، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)} {زُيِّنَ}. استئناف نشأ عن قوله: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم} [آل عمران: 10] إذ كانت إضافة أمواللٍ وأولاد إلى ضمير «هم» دالة على أنّها معلومة للمسلمين. قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات. وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس. والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً. وقال امرؤ القيس: الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن: التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه، قال تعالى: {تريد زينة الحياةِ الدنيا} [الكهف: 28]. وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة: أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا وفي حديث «سنن أبي داود»: أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه: إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح. قال أبو برزة: «ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد». فقال عبيد الله: «إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن». والشهوات جمع شهوة، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي، والشهوة بزنة المَرّة، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة. وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف. وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ، أي المشتهيات نفسها، لا حبُّها، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان، وليس الحبّ بمزيَّن، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق. والوجه عندي إمّا أن يجعل {حبّ الشهوات} مصدراً نائباً عن مفعول مطلق، مبيّناً لنوع التزيين: أي زيّن لهم تزيين حب، وهو أشدّ التزيين، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل، وأصل الكلام: زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل، وجعل نائباً عن الفاعل، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى: {فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي} [ص: 32]. وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة. وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار، فعبّر عن ذلك بالتزيين، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة، وقد تكون في كثير منها مضارّ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال. وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا، لما جُهل فاعله في متعارف العموم، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول: كقولهم عُني بكذا، واضْطُرّ إلى كذا، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى: {وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون} [يس: 72]. ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة. كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات: من الخِلاّن والقُرناء، وعن الحسن: المزيِّن هو الشيطان، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام، وفي الحديث: «قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال: أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر» وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام، والمعرَّضة للزوال، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية، وتنال النعيم الأبدي العظيم؛ كما أشار إليه قوله: {ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب}. وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما، بيان بأصول الشهوات البشرية: التي تجمع مشتهيَات كثيرة، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل؛ إذ المرأة هي موضع التناسل، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة، وفي الحديث: «ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء» ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسن. ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع: إذ جعل الله في الوالدين، من الرجال والنساء، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل، وببقائه بقاء النوع، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف، بعد القوة، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه.
والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء، والنقدان منهما: الدنانيرُ والدراهم، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها. {والقناطير} جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية، كما نقله النقّاش عن الكلبي، وهو الصحيح؛ فإن أصله في اللاّتينية «كِينْتال» وهو مائة رطل. وقال ابن سيده: هو معرّب عن السريانية. فما في «الكشاف» في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قتطَرت الشيءَ إذا رفعتَه، تكلّف. وقد كان القنطار عند العرب، وزنا ومقداراً، من الثروة، يبلغه بعض المثرين: وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة، ويقولون: قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة، وقد يقال: هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب. و {المقنطرة} أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوففِ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم: لَيْلٌ ألْيَلُ، وظِلٌ ظَلِيلٌ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء، وشِعْرٌ شَاعِر، وإبِل مُؤَبَّلَة، وآلاف مُؤَلَّفَة. {والخيل} محبوبة مرغوبة، في العصور الماضية وفيما بعدها، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس، والعناية بالمسابقة بين الأفراس. وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها، قال امرؤ القيس: كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *** و {المسوّمة} الأظهر فيه ما قيل: إنّه الراعية، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي، يقال: أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة ". وقيل: المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب، قال العَتَّابي: ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف يريد جعلت له سُومة أفراسسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} في سورة [البقرة: 273]. و {الأنعام} زينة لأهل الوبر قال تعالى: {ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6]. وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى: {والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء} الآيات في سورة [النحل: 5]، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً. {والحرث} أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع، وتقدم عند قوله تعالى: {نساؤكم حَرث لكم} في سورة [البقرة: 223] وعند قوله: {ولا تَسقي الحرث} [البقرة: 71] فيها. والإشارة بقوله: {ذلك متاع الحياة الدنيا} إلى جميع ما تقدم ذكره، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة. والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة. ومعنى {والله عنده حسن مئاب} أنّ ثواب الله خير من ذلك. والمآب: المرجع، وهو هنا مصدرٌ، مَفْعَل من آب يَؤوب، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة، وقلبت الواو ألفاً، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} استئناف بياني، فإنّه نشأ عن قوله: {زين للناس} [آل عمران: 14] المقتضي أنّ الكلام مسوق مساق الغضّ من هذه الشهوات. وافتتح الاستئناف بكلمة {قل} للاهتمام بالمقول، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للعرض تشويقاً من نفوس المخاطبين إلى تلقّي ما سيقصّ عليهم كقوله تعالى: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10] الآية. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمر، وأبو جعفر، ورُويس عن يعقوبَ: {أُونّبئكم} بتسهيل الهمزة الثانية واوَا. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، ورَوح عن يعقوب، وخلفٌ: بتخفيف الهمزتين. وجملة {للذين اتقوا عند ربهم جنات} مستأنفة وهي المنبَّأ به. ويجوز أن يكون {للذين اتقوا} متعلقاً بقوله: «خيرٍ» و«جنّات» مبتدأ محذوف الخبر: أي لهم، أو خبراً لمبتدأ محذوف. وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة؛ لأنّ لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة، للاستغناء عنها، وكذلك لذة الخيل والأنعام؛ إذ لا دوابّ في الجنة، فبقي ما يقابل النساء والحرث، وهو الجنّات وَالأزواج، لأنّ بهما تمام النعيم والتأنّس، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرُمه من جعل حظّه لذّات الدنيا وأعرض عن الآخرة. ومعنى المطهّرة المنزّهة ممّا يعتري نساء البشر ممّا تشمئزّ مِنه النفوس، فالطهارة هنا حسية لا معنوية. وعطف {رضوانٌ من الله} على ما أعدّ للذين اتّقوا عند الله: لأنّ رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي؛ لأنّ رضوان الله تقريب رُوحاني قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] وقرأ الجمهور: {رِضوان} بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم: بضم الراء وهما لغتان. وأظهر اسم الجلالة في قوله: {ورضوان من الله}، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربّهم: لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان. وجملة {والله بصير بالعباد} اعتراض لبيان الوعد أي أنّه عليم بالذين اتّقوا ومراتببِ تقواهم، فهو يجازيهم، ولتضمّن بصير معنى عليم عدي بالباء. وإظهار اسم الجلالة في قوله: {واللَّه بصير بالعباد} لقصد استقلال الجملة لتكون كالمَثَل. وقوله: {الذين يقولون} عطف بيان {للذين اتقوا} وصفهم بالتقوى وبالتوجّه إلى الله تعالى بطلب المغفرة. ومعنى القول هنا الكلامُ المطابق للواقع في الخبرِ، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء، في قولهم: {فاغفر لنا ذنوبنا} إلخ، وإنّما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقّبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى، فلا يُجازَى هذا الجزاءَ من قال ذلك بفمه ولم يعمل لهُ. وقوله: {الصابرين والصادقين} الآية صفات للذين اتّقوا، أو صفات للذين يقولون، والظاهر الأوّل. وذكر هنا أصول فضائل صفات المتديّنين: وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي. والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبثّ الثقة بين أفراد الأمة. والقنوت، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية. والإنفاق وهو أصل إقامة أوَد الأمة بكفاية حاج المحتاجين، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس. وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل، والسحر سُدس الليل الأخيرْ؛ لأنّ العبادة فيه أشدّ إخلاصاً، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته، فاختار له هؤلاء الصادقُون آخرَ الليل لأنّه وقت صفاء السرائر، والتجرّد عن الشواغل. وعطف في قوله: {الصابرين}، وما بعده: سواء كان قوله: {الصابرين} صفة ثانية، بعد قوله: {الذين يقولون}، أممِ كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم، فيكون، بالعطف وبدونه، مثل تعدّد الأخبار والأحوال؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات. وفي «الكشاف»؛ أنّ في عطف الصفات نكْتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كلّ صفة منها، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} [البقرة: 4] مع أنّه لم يبيّن هنالك شيئاً من هذا، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك، وكلامه يقتضي أنّ الأصل عنده في تعدّد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذناً بمعنى خصوصي، يقصده البليغ، ولعل وجهه أنّ شأن حرف العطف أن يُستغنَى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات، وليس كذلك الصفات، فإذا عُطفت فقد نُزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة، وما ذلك إلاّ لقوة الموصوف في تلك الصفة، حتى كأنّ الواحد صار عدداً، كقولهم واحدٌ كألْف، ولا أحسب لهذا الكلام تسليماً. وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} في سورة البقرة.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} استئناف وتمهيد لقوله: {إن الدين عند اللَّه الإسلام} [آل عمران: 19] ذلك أنّ أساس الإسلام هو توحيد الله، وإعلان هذا التوحيد، وتخليصه من شوائب الإشراك، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود، وإن تفاوَتوا في مراتب الإشراك، وفيه ضرب من ردّ العجز على الصدر: لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم، نزل عليك الكتاب بالحق} (آل عمران: 2، 3. (والشهادة حقيقتها خبر يصدَّق به خَبَرُ مُخْبِرٍ وقد يكذّب به خبرُ آخرَ كما تقدم عند قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} في سورة البقرة (282). وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق، كان مظنّة اهتمام المخبِر به والتثبّتتِ فيه، فلذلك أطلق مجازاً على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى: {واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم، فشهادة اللَّه تحقيقُه وحدانيتَه بالدلائل التي نصبها على ذلك، وشهادةُ الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة. فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبِر بالمخبِر، ولك أن تجعل «شهد» بمعنى بيَّن وأقام الأدلة، شُبه إقامة الأدلة على وحدانيته: من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التَبعية، وبَيّن ذلك الملائكة بما نَزَلوا به من الوحي على الرسل، وما نطقوا به من محامد، وبيَّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين: إقرار الملائكة، واحتجاج أولي العلم، ثم تِبْنيَه على استعمال شهد في معاننٍ مجازية، مثل: {إنّ الله وملائكته يصلّون} [الأحزاب: 56]، أو على استعمال شهد في مجاز أعم، وهو الإظهار، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام، بناء على عموم المجاز. وانتصب {قائماً بالقسط} على الحال من الضمير في قوله: {إلاّ هو} أي شهد بوحدانيته وقيامِه بالعدل، ويجوز أن يكون حالاً من اسم الجلالة من قوله: {شهد الله} فيكون حالاً مؤكدة لمضمون شهد؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط، فالشاهد بها قائم بالقسط، قال تعالى: {كونوا قوامين للَّه شهداء بالقسط} [المائدة: 8]. وزعم ابن هشام في الباب الرابع: أنّ كونه حالاً مؤكدة وهَم، وعلّله بما هو وهَم. وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعرَاب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب. والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله: {أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت} [الرعد: 33] وقوله: {ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] وتقول: الأمير قائم بمصالح الأمة، كما تقول: ساهر عليها، ومنه «إقام الصلاة» وقول أيمن بن خُريم الأنصاري: أقامتْ غَزالةُ سُوقَ الضِّراب *** لأِهْل العِراقَيْننِ حَوْلاً قميطاً وهو في الجميع تمثيل. *** والقسط: العدل وهو مختصر من القسطاس بضم القاف روى البخاري عن مجاهد أنّه قال: القسطاس: العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان، لأنّه آلة للعدل قال تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35] وقال: {ونضع الموازين القِسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47]. وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نُظُمها، وفي تقدير بقاء الأنواع، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل: لدفع ظلم بعضهم بعضاً، وظلمِهم أنفسَهم، فهو القائم بالعدل سبحانه، وعَدْل الناس مقتبس من محاكاة عدله. وقوله: {لا إله إلا هو} تمجيد وتصديق، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقينُ الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلّون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56] أي اقتداء بالله وملائكته، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم.
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} قرأ جمهور القرّاء إنّ الدينإِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} بكسر همزة إنّ فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بِأجمَع عبارة وأوجزَها. وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة: غرض محاجّة نصارى نجران، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب، إذ هو الفرقان، فإنّ ذلك أسّ الدين القويم، ولما كان الكلام المتقدم مشتملاً على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن، وإبطاللٍ لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام «أسْلَمْنَا قبلَك» فقال لهم: «كَذَبْتُم» روى الواحدي، ومحمد بن إسحاق: أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله: " أسْلِمَا " قالا: «قد أسلمنا قبلك» قال: " كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّهِ ولدا، وعبادتُكما الصليب "، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم. واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة، وإن كان بعضها استئنافاً، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات. وتوكيد الكلام بأنّ} تحقيق لما تضمنَّه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام: أي الدين الكامل. وقرأ الكسائي {أنّ الدين} بفتح همزة أنّ على أنّه بدل من {أنَّه لا إله إلاّ هو} [آل عمران: 18] أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام. والدين: حقيقته في الأصل الجزاء، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على: مجموع عقائد، وأعمال يلقّنها رسولٌ من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشْبِه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتَلتزمه طائفة من الناس. وسمّي الدين ديناً لأنّه يترقب منه مُتَّبِعُهُ الجزاءَ عاجلاً أو آجلاً، فما من أهل دين إلاّ وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقال أبو سفيان يوم أحُد: أعْلُ هُبَلْ. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله: «لقد علمتُ أنْ لو كان معه إله غَيرُه لقد أغنى عَنّي شيئاً». وأهل الأديان الإلهيَّة يترقّبون الجزاء الأوْفَى في الدنيا والآخرة، فأول دين إلهي كان حقاً وبه كان اهتداء الإنسان، ثم طرأت الأديان المكذوبة، وتشبّهت بالأديان الصحيحة، قال الله تعالى تعليماً لرسوله {لكم دينكم ولي ديني} [الكافرون: 6] وقال: {ما كان ليأخذ أخاه فِي دِين الملك} [يوسف: 76]. وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه «وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً». والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أُطلق على ذلك الإيمان أيضاً، ولذلك لقب أَتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين، وهو الإطلاق المراد هنا، وهو تسمية بمصدر أَسْلَم إذا أذْعَن ولم يعاند إذعاناً عن اعتراف بحق لا عن عجز، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي، ولذلك قال الله تعالى: {هو سمَّاكم المسلمين} [الحج: 78] وقال: {فقل أسلمتُ وجهي للَّه ومن اتّبعني} [آل عمران: 20] ولأنّ الإسلام لا يكون إلاّ عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة. وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال؛ والإيمان على الاعتقاد، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع، كما في قوله تعالى، خطاباً لقوم أسلموا متردّدين {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل: من ذكر معنى الإيمان، والإسلام، والإحسان. والتعريف في الدين تعريف الجنس؛ إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة: لأنّ الإسلام صار علماً بالغَلَبة على الدين المحمّدي. فقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} صيغة حصر، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه، وهو الدين، في المسند، وهو الإسلام، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد. وقولُه: {عند الإسلام} وصف للدين، والعندية عندية الاعتبار والاعتناءِ وليست عندية علم: فأفاد، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام، فيكون قصراً للمسند، إليه باعتبار قيد فيه، لا في جميع اعتباراته: نظير قول الخنساء: إذا قَبُحَ البُكاءُ على قتيل *** رأيتُ بكاءَكَ الحَسَن الجَميلا فحصرت الحَسَن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللاّم، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقتتِ حُجْ البكاء على القتلى وهو قصر حُسْن بكائها على ذلك الوقت، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلاً صَاحب المطوّل. وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول: إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله، حينَ الإخبار، وهو الإسلام، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية، من خلط الفاسد بالصحيح، ما أختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن، وهذا المعنى أولي محملي الآية، لأنّ مُفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تُجاه بقية الأديان الإلهية أتم. ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه، ولما كان المراد من ذلك هو العمل، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم، ليتمكّنوا من العمل بها بدواممٍ وانتظام، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني دأباً وعادة لمنتحليه، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان. ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة. وقد كانت أحوال الجماعات البشرية، في أول عهود الحضارة، حالاتتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات، وما تلك الدواعي، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد، إلاّ دواع غير منتشرة؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته، ودفع الآلام عنه، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به، وتحسيننِ حاله، فبذلك ائتلف نظام الفرد، ثم نظام العائلة، ثم نظام العشيرة، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة، بالغذاء والدفاععِ عن النفس، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج، والانتصار للعائلة وللقبيلة؛ لأنّ بها الاعتزاز، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك، بإعداد المعدّات: وهو التعاوض والتعامل، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها، وتلك حالة قناعة العيش، وقصور الهمة، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة. وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين: عدم الداعي، وانسداد وسائل الصدفة، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد، أو اختلاط في نجعة أو موسم، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان، فيصبح في خبر كان. فكيف يرجى من أقوام، هذه حالهم، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم، ومتقارب تصوّر عقولهم، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى، في قديم العصور، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين؛ وفي حديث مسلم، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال: «فيجيء النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» وفي رواية البخاري: «فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط» الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان. ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل، فحصل للأمم حظ من الحضارة، وتقاربت العوائد، وتوسّعت معلوماتهم، وحضارتهم، فكانت من الشرائع الإلهية: شريعة إبراهيم عليه السلام، ومن غيرها شريعة (حمورابي) في العراق، وشريعة البراهمة، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله: {ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك} [يوسف: 76]. ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة (زرادشت) في الفرس، وشريعة (كنفشيوس) في الصين، وشريعة (سولون) في اليونان. وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدْعُ غير بين إسرائيل ولم تدع الأممَ الأخرى التي مرّت عليها، وامتزجت بها، وصاهرتها، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناسَ إليها القدّيس بُولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة. إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد، بسببين: اضطراري، واختياري. أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب، وأهل الغرب إلى الشرق، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم، وهما يومئذ قطبا العالم، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها، فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، وتوالت أزماناً طويلة. وأمّا الاختياري فهو ما أبْقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد، حسنت في أعين رائيها، فاقتبسوها، وأشياء قبحت في أعينهم، فحذِروها، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة، وتأسّست مدنيات متفنّنة، وتهيّأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية، فتهيّأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتاً ربما كان منه ما زاد بعضَها تهيّئوا لقبول التعاليم الصحيحة، وقهقر بعضاً عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها، أو العكوف والإلف على حضارتها. فبلغ الأجل المراد والمعيّن لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة. فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبِق لها سابقةُ سلطان، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية، لتكون أقرب إلى قبول الحق، وأظهر هذا الدينَ بواسطة رجل منها، لم يكن من أهل العلم. ولا من أهل الدولة، ولا من ذرية ملوك، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة، ليكون ظهور هذا تحت الصريح، والعلم الصحيح، مِن مثله آيةً على أنّ ذلك وحي من الله نفحَ به عباده. ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصوله مَبنية على الفطرة بمعنى ألاّ تكون ناظرة إلاّ إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير ماسور للعوائد ولا للمذاهب، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لِخلق الله ذلك الدين القيّم {ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30]، قال الشيخ أبو علي ابن سينا: «الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لم يسمع رأياً، ولم يعتقد مذهباً، ولم يعاشر أمة، لكنّه شاهد المحسوسات، ثم يعرِض على ذهنه الأشياء شيئاً فشيئاً فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلاً، قبل أن يعترضه الوهْم». ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر، وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالاً، ولا تفضي إلى فساد، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة. فبهذا الأصل: أصللِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر. ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله. المظهر الأول: إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم {قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه} [آل عمران: 64]. وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام، وأكثرَ ما تعرّض له؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة: خوفاً من لا شَيء، وطمعاً في غير شيء، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه. ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزّة النفس، وأصلة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل. وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً. المظهر الثاني: جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى: {من عَمِل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. المظهر الثالث: اختصاصه بإقامة الحجة، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه، بالترغيب وبالترهيب، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلاّ بالحجة والدليل، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلاّ بالجدل والخطابة، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله، ومنهم المكابر المعاند، الذي لا يقلعه عن شغبه إلاّ القوارع والزواجر. المظهر الرابع: أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط، وفي القرآن: {قل يأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف: 158]، وفي الحديث الصحيح: «أعْطِيتُ خمساً لم يُعْطَهُنّ أحَدٌ قبلي فذكر وكانَ الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة» وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم. والاختلاف في كون نوح رسولاً إلى جميع أهل الارض، إنّما هو مبْني: على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الارض في أتباع نوح، عند القائلين بعموم الطوفان سائرالارض، ألاَ ترى قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [الأعراف: 59] وأيَّاماً كان احتمال كون سكّان الارض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح، فإن عموم دعوتة حاصل غير مقصود. المظهر الرابع: الدوام ولم يَدّععِ رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة، بل ما من رسول، ولا كتاب، إلاّ تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده. المظهر الخامس: الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان. المظهر السادس: أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور؛ لأنّ الشرور، إذا تَسرَّبت إلى النفوس، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين: طريقة مباشرة، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث: «إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس». المظهر السابع: الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة، وفي القرآن {يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وفي الحديث: «بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه» وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء؛ لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة، ولم تكن بالتي يُناسبها ما قُدِّر مصيرُ البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام. المظهر الثامن: امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلاّ تأسيس قانون للأمة، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة، واتّحاد الأمة في العمل والنظام. المظهر التاسع: صراحة أصول الدين، بحيث يتكرّر في القرآن ما تُستَقْرَى منه قواطعُ الشريعة، حتى تكونَ الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة، ويزداد هذا بياناً عند تفسير قوله تعالى: {فقل أسلمت وجهي للَّه ومن اتّبعني} [آل عمران: 20]. {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}. عُطِفَ {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} على قوله: {إن الذين عند الله الإسلام} للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام، ومن سوء فهمهم في دينهم. وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر: لبيان سبب اختلافهم، وكأنّ اختلافَهم أمر معلوم للسامع. وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخباراً يتضمّن بيان سببه، وإبطال ما يَتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدِّيننِ الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف، وبين سلامة الإسلام من ذلك. وذلك أنّ قوله: {إن الدين عند الله الإسلام} قد آذَن بأنّ غيره من الأدين لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم، والدوام، قبل التغيير، بلَه ما طرأ عليها من التغيير، وسوء التأويل، إلى يومَ مجيء الإسلام، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف، كما تقدّم في المظهر التاسع، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة، والتي لم يَدْعُ إليها داععٍ صريح. وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ: منها التحذير من الاختلاف في الدين، أي في أصوله، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف. ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين. ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان: أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} [البقرة: 113]، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقاً متباينةَ المنازع. كما جاء في الحديث: " اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة " يُحَذِّر المسلمين ممّا صنعوا. ومنها أنّ اختلافهم ناشيء عن بغي بعضهم على بعض. ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراضضِ عنه بغياً منهم وحسداً، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: 146، 147]، وقال تعالى: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق} [البقرة: 109] أي أعرضوا عن الإسلام، وصمّموا على البقاء على دينهم، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسداً على ما جاءكم من الهُدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق. ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني، حُذِف متعلِّق الاختلاف في قوله: {اختلف الذين أوتوا الكتاب} ليشمل كلّ اختلاف منهم: من مخالفة بعضهم بعضاً في الدين الواحد، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين. وحُذف متعلّق العلم في قوله: {من بعد ما جاءهم العلم} لذلك. وجُعل «بغيا» عقب قوله: «من بعد ما جاءهم العلم» ليتنازعه كلُّ من فعل (اختلف) ومن لفظ (العِلم). وأُخِّر بينَهم عن جميع ما يصلح للتعليق به: ليتنازعه كلّ من فعل (اختلف) وفِعل (جاءَهم) ولفظِ (العِلم) ولفظ (بَغيا). وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معانيَ من معاني قوله تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم للبينات بغيا بينهم} في سورة ا [لبقرة: 213] وقوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة} في سورة [البيّنة: 4] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين. فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم: أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غيرَ مرة، واختلافِهم بعد سليمانَ إلى مملكتين: مملكة إسرائيل، ومملكة يَهُوذا، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديُّنٌ يخالف تديُّنَ الأخرى، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح، وفي رسوم الدين، ويكون قوله: بينهم حالاً لبغيا: أي بغيا متفشيّا بينهم، بأن بغَى كلّ فريق على الآخر. ويشمل أيضاً الاختلاف بيْنهم في أمر الإسلام؛ إذ قال قائل منهم: هو حق، وقال فريق: هو مرسل إلى الأميّين، وكفر فريق، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام}، ويكون قوله: {بينهم} على هذا وصفا لبغيا: أي بغياً واقعاً بينهم. ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤُهم، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد، إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى. وانتصب {بغيا} على أنّه مفعول لأجله، وعامل المفعول لأجله: هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعدَ حرف الاستثناء، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقديرُ: ما اختلفوا إلاّ في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلاّ بغياً بينهم. ولك أن تجعل بغياً منصوباً على الحال من الذين أوتوا الكتاب، وهو وإن كان العامل فيه فعلاً منفياً في اللفظ إلاّ أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوه المثبت، فجاء الحال منه عقب ذلك، أي حال كون المختلفين باغين، فالمصدر مؤوّل بالمشتق. ويجوز أن تجعله مفعولاً لأجله من (اختلف) باعتبار كونه صار مثبتاً كما قرّرنا. وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف، والبغي كُفْر، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم، وإلى نكران دين الإسلام، ولذلك ذيّله بقوله: {ومن يكفر بآيات الله} إلخ. وقولُه: {فإن الله سريع الحساب} تعريض بالتهديد، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله: {إنْ حسابهم إلاّ على ربي} [الشعراء: 113]. وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلاّ اختلافاً علمياً فرعياً، ولم يختلفوا اختلافاً ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين، وخدمة مقاصد الشريعة، فبَنُو إسرائيل عبدوا العجل والرسولُ بين ظهرانيْهم، وعبدوا آلهة الأمم غيرَ مرة، والنصارى عبدوا مريم والمسيح، ونقضوا أصول التوحيد، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق. فأما المسلمون لما قال أحدُ أهل التصوّف منهم كلامَاً يوهم الحُلول حكم علماؤهم بقتله.
|